خلف كلّ إنسان قصة! هذا ما فكرت فيه وأنا أتأمل وجوه الصغيرات في اليوم الدراسيّ الأول، ثمة ملامحُ لطفولة شاخت قبل الأوان، وجوهٌ محملة بالأسئلة، ووعيٌ أشرعت أبوابه بجنونِ ريحٍ وفوضى عاصفة القنواتُ الفضائية والإنترنت، عوالمُ بلا أسرار، نوافذها مطلة على مدى من الاحتمالاتِ المتشعبة والخبراتِ البصرية والمعرفية غير المحدودة.
تساءلتُ: كيف أستطيع، بصفتي معلمة، أن ألمّ بكف مهاراتي التربوية والاستراتيجيات التدريسية التي اكتسبتها وخبرتُهـا هذه الأغصانَ الغضة المتفرعة من شجيرة الحياة؟ كيف أحتوي هذه العقول الصغيرة المزروعة بالأسئلة التي نضجت قبل أوانها مثل نبتة أتخمت بهرمونات النمو؟
وكيف أضمٌ القلق الساكن في عيون تتطلع إلى الحياة بلون الترقب والدهشة والأمل؟ وبأيّ لغة حوار أتمكن من مخاطبة النفوس الغضة التي سرقت بكارة وعيها ثورةُ "الإنفوميديا" التي ربما تسبق ما تحتويه المناهج الدراسية من معلومات وما تسرده بجمود من معارف؟
والأهم من ذلك، بأيّ أدوات ووسائل تعليمية أستطيع جذب انتباه طالبة عيناها تملأههما الأضواءُ والألوانُ للشاشات المنتشرة حولها، وتحاصر حواسها بالصوت وباللون وبالتحديث وبإمكانات شاسعة من الاختيار؟!
منذ ما يقارب العقد من الزمان كنتُ أركز على الوضع العائليّ للطالبات؛ لأعاملَ مَن تعاني التفكك الأسري معاملة خاصة؛ أحتوي ما تنوء به روحها من ظلال حرمان ثقيلة ورواسب مشکلات وخلافات بين الأبوين، وكنت أبحث عمن تعاني ضعف التحصيل الدراسي، فأتبع خطة علاجية أو أفرح بالتقاط برعم للتميز لأطبق خطة إثرائية.
اليوم باتت مثل هذه الحالات -برغم وجودها- لا تشكل سوى جانبٍ صغير من خطة العمل ومتطلبات النجاح؛ إذ بات الهدف الأساس العمل على جعل البيئة الصفية واستراتيجيات التدريس المستخدمة قادرة على جذب طالب يشتت حواسه التقدمُ التكنولوجي المتسارع، وعلى احترام سعة أفقه، والعمل على إثارة الأسئلة لديه عوضاً عن الاكتفاء بتقديم إجابات جاهزة قد يعرفها مسبقاً، أو يمكنه التوصل إليها بكبسة زر، وباتت الخطة العلاجية لا تركز على الضعف الإملائي في اللغة العربية فحسب، بل تحاول البحث عن مبررات استخدام «لغة الشات» وتخلخل القناعة بأهمية احترام وإتقان اللغة العربية الأم!
تغيرت المعطيات وتنوعت الأهداف، وتشعبت وانقلبت أولويات المعلم الذي يصر على ترك بصمته الإيجابية في نفوس طلبته، ويعتبر وجوده في الغرفة الصفية فرصة للتأثير الإيجابي والمساهمة الفاعلة في تأهيل طلبته للحياة، والذي ينظر إلى الطالب باعتباره أرضاً خصبة يمكنه سقايتها بالوعي وإلقاء البذور الخيرة فيها من دون انتظار لموسم حصادٍ قريب؛ فالاستثمار في الإنسان استثمارٌ في المستقبل، والطالبُ زرعٌ في أرض الآتي من السنوات.
تحتاج إلى عين القلب أحياناً لترى في وجوه طلبتك ما تخبئه من قصص، وتلمح ما تختزنه من أسئلة، وما يعكر صفاء طفولتهم من قلق ووعي ثقافة الصورة التي باتت تسابق الكلمة في صوغ الخبر وتأثيث الوعي وبناء المنظومة القيمية التي تشكل المرجع السلوكي للفرد؛ فأي معطيات متشعبة تلك التي تشارك وتسهم -شئنا أم أبينا- في تربية وتشكيل السمات الشخصية والبنية التربوية والمنظومة القيمية للجيل المعاصر؟!
وأيٌ استراتيجيات تدريسية وسياسة تعليمية نحتاج إلى تبنيها تتسم بالمرونة والفاعلية والقدرة على تحريك بحيرة الاهتمام الساكنة في نفوس طلبة باتت الحصص الصفية بالنسبة إليهم لوحة رمادية جامدة يتوقون للعودة بعدها إلى الشاشات المفتوحة على عوالم بلا حدود؟!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق